الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ***
وجه المناسبة في ذكر الديات بعد الجنايات كون الدية إحدى موجبي الجناية المشروعين للصيانة ولما كان القصاص أشد صيانة قدم موجبه والديات جمع دية وهو مصدر ودى القاتل المقتول إذا أعطى وليه المال الذي هو بدل النفس قال المولى المعروف بأخي جلبي : ثم قيل لذلك المال دية تسمية بالمصدر وواوها محذوفة كذا في المغرب ( الدية المغلظة من الإبل مائة أرباعا ) يعني أن الدية المغلظة في شبه العمد تكون أربعة أنواع بينها بقوله ( بنات مخاض وبنات لبون وحقاق وجذاع ) قد سبق تفسير الكل في كتاب الزكاة ( من كل ) أي من كل واحدة منها ( خمس وعشرون ) فيكون جملتها مائة هذا عند الشيخين ( وعند محمد ) وهو قول الشافعي ( ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ثنية ) قد سبق تفسيرها في كتاب الزكاة أيضا ( كلها ) أي كل الثنيات ( خلفات ) بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام والفاء جمع خلفة وهي الحامل من النوق فيكون قوله ( في بطونها أولادها ) صفة كاشفة . وفي غاية البيان أن تغليظ الدية مروي عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنهم لكن اختلفوا في كيفية التغليظ فعند الشيخين ما ذكر أولا وعند محمد والشافعي ما ذكر ثانيا لقوله عليه الصلاة والسلام " إلا أن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه دية مغلظة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها " ولأن دية شبه العمد أغلظ من دية الخطأ المحض ودليل الشيخين قوله عليه السلام "في نفس المؤمن مائة من الإبل " وجه الاستدلال به أن الثابت عنه صلى الله تعالى عليه وسلم هو هذا وما رواه محمد والشافعي غير ثابت لاختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في صفة التغليظ فإن عمر رضي الله تعالى عنه وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهم قالوا مثل ما قالا وقال علي رضي الله تعالى عنه : تجب أثلاثا ثلاثة وثلاثون حقة وثلاثة وثلاثون جذعة وأربعة وثلاثون خلفة وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مثل ما قلنا ولا مدخل للرأي في المقادير فكان كالمرفوع وصار معارضا بما روياه وإذا تعارضا كان الأخذ بالأدنى وهو المتيقن أولى . وفي النهاية وذكر في المبسوط أن الشيخين احتجا بحديث السائب بن يزيد أن "النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قضى في الدية بمائة من الإبل أرباعا" ومعلوم أنه لم يرد به الخطأ لأنها في الخطأ تجب أخماسا فعلم أن المراد به شبه العمد على أنه قال عليه الصلاة والسلام "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" والمراد أدنى ما يكون منه فكان ما قلناه أولى ولأن الدية إنما تجب عوضا والحامل لا يجوز أن تستحق بشيء من المعاوضات لوجهين : أحدهما أن صفة الحمل لا يمكن الوقوف على حقيقتها والثاني أن الجنين من وجه كالمنفصل فيكون هذا في معنى إيجاب الزائد على المائة عددا وبالاتفاق ليس التغليظ من حيث العدد بل من حيث السن ثم إن الديات تعتبر بالصدقات والشرع نهى عن أخذ الحوامل في الصدقات لأنها كرائم أموال الناس فكذلك في الديات ( ولا تغليظ في غير الإبل ) يعني لا يزاد في الدراهم والدنانير على عشرة آلاف درهم أو ألف دينار ( وهي ) أي الدية المغلظة ( في شبه العمد ) لما روي من الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إلا أن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه دية مغلظة" .
إنما ذكر دية النفس في أول هذا الفصل مع أنه معقود لبيان أحكام الدية فيما هو تبع لها وهو الأطراف تمهيدا لذكر ما بعده وتبركا بلفظ الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام "في النفس الدية وفي اللسان الدية وفي المارن الدية" فلهذا قال . ( وكذا في المارن ) وهو مارن الأنف الدية . ( و ) كذا ( في اللسان ) الدية ( إن منع النطق ) لفوات منفعة مقصودة وهو النطق وكذا في قطع بعضه إذا امتنع من الكلام ولو قدر على التكلم ببعض الحروف دون البعض تقسم الدية على عدد الحروف وقيل على عدد حروف تتعلق باللسان وهي ستة عشر حرفا التاء والثاء والجيم والدال والذال والراء والزاي والسين والشين والصاد والضاد والطاء والظاء واللام والنون والياء فما أصاب الفائت يلزمه وقيل إن قدر على أداء أكثر الحروف تجب حكومة عدل لحصول الإفهام مع الإخلال وإن عجز عن أداء الأكثر يجب كل الدية لأن الظاهر أنه لا يحصل منه الإفهام واختاره المصنف ولهذا قال ( أو ) منع ( أداء أكثر الحروف ) لتفويت منفعة الإفهام .
فصل أحكام الشجاج بفصل على حدة لتكاثر مسائل الشجاج اسما وحكما وإنما لم يجب القود فيه لأنه لا يمكن اعتبار المساواة فيه لأن ما دون الموضحة ليس له حد ينتهي إليه السكين وما فوقها كسر العظم ولا قصاص فيه لقوله عليه الصلاة والسلام "لا قصاص في العظم" هذه رواية الحسن عن الإمام وفي ظاهر الرواية يجب القصاص فيما دون الموضحة ( إلا في الموضحة إن كانت عمدا ) بالاتفاق لما روي : "أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قضى بالقصاص في الموضحة" ولأنه يمكن أن ينتهي السكين إلى العظم ولأنه يمكن أن يستر غورها بالمسبار ثم يتخذ حديدة بقدر ذلك فيقطع بها مقدار ما قطع فيتساويان فيتحقق القصاص ( وفيها ) أي في الموضحة ( خطأ نصف عشر الدية ) لما روي في كتاب عمرو بن حزم أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : "في الموضحة خمس من الإبل" ( وهي ) أي الموضحة الشجة ( التي توضح العظم ) أي تبينه.
فصل في الجنين ( ومن ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا فعلى عاقلته غرة خمسمائة درهم ) وإنما سميت الغرة غرة لأنها أقل المقادير في الديات وأقل الشيء أوله في الوجود ولهذا يسمى أول الشهر غرة لأنه أول شيء يظهر منه كما في التبيين ووجبت فيه الغرة خمسمائة درهم سواء كان ذكرا أو أنثى وهو نصف عشر دية الرجل وعشر دية المرأة والقياس أن لا يجب شيء في الجنين لأنه لم يتيقن بحياته وإنما وجب استحسانا لما روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : قال : "في الجنين غرة عبد أو أمة قيمته خمسمائة درهم ويروى أو خمسمائة" فتركنا القياس بالأثر وهو حجة على من قدرها بستمائة نحو مالك والشافعي وهو على العاقلة عندنا . وقال مالك في ماله لأنه بدل الجزء ولنا أنه عليه الصلاة والسلام قضى بالغرة على العاقلة ولأنه بدل النفس ولهذا "سماه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دية حيث قال : دوه وقال أندي من لا صاح ولا استهل" الحديث إلا أن العواقل لا تعقل ما دون خمسمائة درهم ويجب في السنة . وقال الشافعي : في ثلاث سنين ( فإن ألقته ) أي الجنين ( حيا فمات فدية ) أي فعليه الدية الكاملة لأنه أتلف حيا بالضرب السابق . ( وإن ) ألقت ( ميتا ) سواء كان الجنين ذكرا أو أنثى ( وماتت الأم فغرة ) للجنين ( ودية ) للأم لأنه جنى جنايتين فيجب عليه موجبهما فصار كما إذا رمى شخصا ونفذ منه للآخر فقتله فإنه يجب عليه ديتان إن كان خطأ وإن كان عمدا يجب القصاص والدية كما في التبيين . ( وإن ماتت ) الأم ( فألقته ) أي الجنين ( حيا فمات ) الجنين ( فديتها ) أي تجب دية الأم ( وديته ) أي دية الجنين لأنه قاتل شخصين .
لما فرغ من أحكام القتل مباشرة عقبه بذكر أحكامه تسببا والأول أولى بالتقديم لأنه قتل بلا واسطة ولكثرة وقوعه ( من أحدث في طريق العامة كنيفا أو ميزابا أو جرصنا ) الجرصن قيل : هو البرج وقيل : جذع يخرجه الإنسان من الحائط ليبني عليه وقيل هو مجرى ماء يركب في الحائط وهو بضم الجيم وسكون الراء المهملة وضم الصاد المهملة ( أو دكانا وسعه ذلك إن لم يضر بهم ) أي بالعامة لأن الطريق معد للتطرق فله الانتفاع ما لم تتضرر العامة به وإنما قيد بذلك لقوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر ولا ضرار في الإسلام فما تحقق فيه الضرر يأثم بأحداثه ( ولكل منهم ) أي العامة ( نزعه ) ومطالبته بالنقض لأن كل واحد منهم له حق فيه بالمرور بنفسه وبدوابه فكان له حق النقض كما في الملك المشترك فإن لكل واحد حق النقض لو أحدث غيرهم فيه شيئا هذا إذا بنى لنفسه وأما إذا بنى للمسلمين فلا ينقض كذا روي عن محمد وتفصيل الكلام في هذا المقام أنه هل له إحداثه في الطريق أم لا ؟ وهل لأحد الخصومة في منعه من الإحداث فيه ورفعه بعده ؟ وهل يضمن فيما تلف بسبب الإحداث ؟ أما الإحداث فقال شمس الأئمة : إن كان الإحداث يضر بأهل الطريق فليس له ذلك وإن كان لا يضر بأحد لسعة الطريق جاز إحداثه فيه وعلى هذا القعود في الطريق للبيع والشراء يجوز إن لم يضر بأحد وإن أضر لم يجز وأما الخصومة فيه فقال الإمام : لكل أحد مسلما كان أو ذميا أن يمنعه من الوضع وأن يكلفه الرفع أضر أو لم يضر إن كان الوضع بغير إذن الإمام لأن التدبير في أمور العامة مفوض إلى رأي الإمام وعن أبي يوسف لكل أحد أن يمنعه من الوضع قبل الوضع وليس له أن يكلفه الرفع بعد الوضع وعن محمد ليس لأحد أن يمنعه قبل الوضع ولا بعده إذا لم يكن فيه ضرر بالناس لأنه مأذون له في إحداثه شرعا وأما الضمان بالإتلاف فسيأتي تفصيله مشروحا ( وفي الطريق الخاص لا يسعه بلا إذن الشركاء وإن لم يضر ) لأنه مملوك لهم ولهذا وجبت الشفعة لهم على كل حال فلا يجوز التصرف أضر بهم أو لم يضر إلا بإذنهم بخلاف العام فإنه ليس لأحد فيه ملك فيجوز له الانتفاع به ما لم يضر بأحد ( وعلى عاقلته دية من مات بسقوطها فيهما ) كما لو حفر بئرا في طريق خاص أو عام أو وضع حجرا فيه فتلف به إنسان فتجب على العاقلة ديته لأنه متسبب لهلاكه متعد في إحداثه ( وكذا لو عثر بنقضه إنسان ) فيجب الدية على العاقلة لما ذكر من التسبب . ( وإن وقع العاثر على آخر فماتا فالضمان على من أحدثه ) يعني إذا مات العاثر والآخر الذي مات بوقوعه عليهما فضمان ديتهما على المحدث في الطريق ما به الإتلاف لأنه بمنزلة الدافع فكأنه دفعه بيده على غيره ولا ضمان على الذي عثر لأنه مدفوع في هذه الحالة فكان كالآلة . ( وإن أصابه طرف الميزاب الذي في الحائط فلا ضمان وإن ) أصابه ( الطرف الخارج ضمن ) يعني إذا سقط عليه طرف الميزاب فقتله ينظر إن كان ذلك الطرف متمكنا في الحائط فلا ضمان على صاحب الميزاب لأنه غير متعد فيه لما أنه وضعه في ملكه وإن كان الذي أصابه هو الطرف الخارج من الحائط ضمن الذي وضعه لكونه متعديا فيه ولا ضرورة لأنه يمكن أن يركبه في الحائط ولا كفارة عليه ولا يحرم من الميراث لأنه ليس بقاتل حقيقة ولو أصابه الطرفان جميعا وعلم ذلك وجب النصف وهدر النصف كما إذا جرحه سبع وإنسان فإنه يضمن النصف اعتبارا للأحوال لأنه يضمن في حال ولا يضمن في حال فيتوزع الضمان على الأحوال لأن فيه النظر من الجانبين . فصل في الحائط المائل لما ذكر أحكام مسائل القتل التي تتعلق بالإنسان مباشرة وتسببا شرع في بيان أحكام القتل المتعلقة بالجماد ( إن مال حائط إلى طريق العامة فطولب ربه ) أي رب الحائط ( بنقضه من مسلم أو ذمي ) رجل أو امرأة حر أو مكاتب لأن الناس في المرور شركاء ممن يملك نقضه وهدمه فيصح التقدم من كل واحد منهم ( وأشهد عليه ) بأن يقول إن حائطك هذا مخوف أو مائل فانقضه حتى لا يسقط أو اهدمه فإنه مائل والإشهاد بعد الطلب ليس بشرط فيكون ذكر الإشهاد فيما ذكر ليتمكن من إثبات الطلب عند الإنكار فيكون من قبيل الاحتياط وهذا لا ينفي وجود معنى الإشهاد إذا وقع الطلب عند الشهود بل ينبغي الإشهاد بلفظ اشهدوا وتدل عليه عبارة الإشهاد . وفي المنح لو قال اشهدوا أني تقدمت إلى هذا الرجل في هدم حائطه هذا صح أيضا ولو قال : ينبغي لك أن تهدمه فهذا ليس بطلب ولا إشهاد بل هو مشورة ( فلم ينقضه في مدة يمكن نقضه فيها فتلف به ) أي بانهدامه ( نفس أو مال ) ( ضمن عاقلته ) أي عاقلة رب الحائط ( النفس , و ) ضمن ( هو ) أي رب الحائط ( المال ) والقياس أن لا يضمن وهو قول الشافعي لأنه لم يوجد منه صنع هو متعد فيه لأنه بنى الحائط في ملكه والسقوط والميلان ليس من صنعه فلا يضمن كما قبل الإشهاد وجه الاستحسان أنه إذا مال إلى الطريق فقد شغل هواء الطريق بحائطه ووقع في يده هواء المسلمين ورفعه في يده فإذا طولب بالنقض وتفريغ الهواء عن هذا الشغل لزمه ذلك فإذا لم يفرغ مع التمكن صار خائنا كأنه شغل ابتداء باختياره . ( وكذا لو طولب به من يملك نقضه كأب الطفل ) الذي وقع في عامة النسخ بدون الياء في أب لكن الصحيح أن يرسم بالياء ( ووصيه ) لقيام الولاية لهما بالنقض في حقه ( والراهن ) فيصح التقدم إليه لقدرته على النقض ( بفك الرهن ) وإرجاع المرهون إلى يده ( والعبد التاجر ) ولو مديونا لأن له ولاية النقض ثم ما تلف بالسقوط إن كان مالا فهو في رقبته وإن كان نفسا فعلى عاقلة المولى لو كان عاقلة لأن الإشهاد من وجه على المولى وضمان المال أليق بالعبد وضمان النفس بالمولى ( والمكاتب ) لأنه مالك يدا فيكون ولاية النقض له وضمان ما تلف نفسا أو مالا فيه حكم ضمان ما تلف في العبد التاجر ( ولا يضمن إن باعه ) أي الحائط ربه ( بعد الإشهاد وسلمه إلى المشتري فسقط ) لأنه خرج عن ملكه بالبيع سواء قبضه المشتري أو لا كما في الدرر وعزاء إلى الكافي وليس في الهداية لفظ أو لا . وفي الجوهرة شرط أن يكون بعد القبض حيث قال ولو : باع الدار بعدما أشهد عليه وقبضها المشتري برئ من ضمانه . وفي المنح فإن قلت هل قولهم خرج عن ملكه ببيع قيد أو لا قلت ليس بقيد بل غير البيع كذلك كالهبة ونحوها قال في الحاوي القدسي إذا أشهد على صاحب الحائط المائل بالنقض ثم خرج الحائط عن ملكه ببيع أو غيره بطل الإشهاد والتقدم حتى إذا عاد إلى ملكه فسقط بعد تمكن النقض أو قبله لا يجب عليه الضمان بذلك الإشهاد انتهى ( ولا ) يضمن ( إن طولب به ) أي بالنقض ( من لا يملكه ) أي النقض ( كالمرتهن والمستأجر والمودع ) لأنه ليس لهم قدرة على التصرف فلا يفيد طلب النقض منهم ولهذا لا يضمنون بما تلف من سقوطه .
جناية البهيمة والجناية ( عليها ) ( يضمن الراكب ) أي في طريق العامة وإنما قيد به لأنه لو كان ملكه لا يضمن شيئا لأنه غير متعد بخلاف ما إذا كان في طريق العامة فيضمن للتعدي ( ما وطئت دابته أو أصابت بيدها أو رجلها أو رأسها أو كدمت أو خبطت برجلها أو صدمت ) والأصل في هذا أن المرور في طريق المسلمين مباح مقيد بشرط السلامة بمنزلة المشي لأن الحق في الطريق مشترك بين الناس فهو يتصرف في حقه من وجه وفي حق غيره من وجه فالجناية مقيدة بشرط السلامة وإنما تقيد بشرط السلامة فيما يمكن التحرز عنه دون ما لا يمكن التحرز عنه لأنا لو شرطنا عليه السلامة عما لا يمكن التحرز عنه يتعذر عليه استيفاء حقه لأنه يمتنع عن المشي والسير مخافة أن يبتلى بما لا يمكن أن يتحرز عنه والتحرز عن الوطء والإصابة باليد أو الرجل والكدم وهو العض بمقدم الأسنان أو الخبط وهو الضرب باليد أو الصدم وهو الضرب بنفس الدابة وما أشبه ذلك في وسع الراكب إذا أمعن النظر في ذلك وأما ما لا يمكن التحرز عنه فهو ما ذكره بقوله ( لا ما نفحت برجلها أو ذنبها ) قال في المغرب : يقال نفحت الدابة بالفاء والحاء المهملة أي ضربت بحد حافرها هذا إذا كانت سائرة ( إلا إذا أوقفها ) أي الراكب الدابة في الطريق فإنه حينئذ يضمن بالنفحة سواء كانت بالرجل أو بالذنب لأنه يمكنه التحرز عن الإيقاف وإن لم يمكنه التحرز عن النفح فصار متعديا في الإيقاف وشغل الطريق به ( ولا ما عطب بروثها أو بولها سائرة أو واقفة ) يعني إذا بالت أو راثت في الطريق وهي تسير فعطب به إنسان لا ضمان عليه لأنه لا يمكن التحرز عنه وكذا إذا أوقفها لذلك فلا ضمان لأن من الدواب ما لا يفعل ذلك حتى يقف فهو أيضا مما لا يمكن التحرز عنه فلهذا لا يضمن بذلك سواء كانت سائرة أو واقفة ( لأجله ) أي لأجل الروث أو البول ( فإن أوقفها لا لأجله ) أي لا لأجل الروث أو البول ( ضمن ما عطب به ) أي بالروث أو البول لأنه يكون متعديا في الإيقاف لأنه ليس من ضرورات السير .
لما فرغ من بيان أحكام جناية المالك وهو الحر والجناية عليه شرع في بيان أحكام جناية المملوك وهو العبد وأخره لانحطاط رتبة العبد عن رتبة الحر كما في شروح الهداية ولقائل أن يقول : إنه ما وقع الفراغ من بيان أحكام جناية الحر مطلقا بل بقي منه جناية الحر على العبد وهو إنما يتبين في هذا الباب فالأظهر أن يقال لما فرغ من بيان جناية الحر على الحر شرع في بيان جناية المملوك والجناية عليه ولما كان فيه تعلق بالمملوك ألبتة من جانب أخره لانحطاط المملوك رتبة من المالك اعلم أنهم اختلفوا في موجب جناية العبد قيل : موجبها الأرش لأن النصوص مطلقة من غير فصل إلا أن للمولى أن يتخلص بالدفع تخفيفا عليه وقيل : موجبها الدفع وللمولى أن يتخلص بالفداء ولهذا يبرأ المولى بهلاكه ولو كان الموجب الأصلي غيره لما برئ بهلاكه لأنه يفوت به الدفع لا الفداء ( جنايات المملوك لا توجب إلا دفعا واحدا لو ) كان ( محلا للدفع ) بأن كان قنا وهو الذي لم ينعقد له شيء من أسباب الحرية كالتدبير وأمومة الولد والكتابة ( وإلا ) أي وإن لم يكن محلا للدفع بأن كان له شيء من أسباب الحرية المذكورة فيما سلف فتوجب ( قيمة واحدة لو ) كان ( غير محل له ) أي للدفع ولا يخفى أن قوله وإلا يفيد ما صرح به من قوله غير محل له فهو مستدرك بلا فائدة وفرع بقوله . فصل شرع في بيان الجناية على العبد بعدما فرغ من بيان أحكام جناية العبد على غيره ( دية العبد قيمته ) لأن العبد أنقص حالا من الأحرار ( فإن كانت ) قيمة العبد ( قدر دية الحر أو أكثر نقصت ) القيمة ( عن دية الحر عشرة دراهم وكذا لو كانت قيمة الأمة كدية الحرة أو أكثر ) يعني أن من قتل عبدا خطأ تجب عليه قيمته ولا تزاد على عشرة آلاف درهم فإن كانت قيمته عشرة آلاف درهم أو أكثر يقضى لوليه بعشرة آلاف درهم إلا عشرة دراهم وفي الأمة إذا زادت قيمتها على الدية يقضى بخمسة آلاف إلا عشرة في أظهر الروايتين . وفي رواية إلا خمسة هذا عند الطرفين وقال أبو يوسف والشافعي : تجب قيمة العبد أو الأمة بالغة ما بلغت لما روي عن عمر وعلي وابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنهم أوجبوا في قتل العبد قيمته بالغة ما بلغت وبه قالت الأئمة الثلاثة ولهما قوله تعالى فصل ( وإن جنى مدبر أو أم ولد ضمن السيد الأقل من القيمة ومن الأرش ) إذ لا حق لولي الجناية في أكثر من الأرش ولا منع من المولى في أكثر من القيمة ولا يثبت الخيار بين الكثير والقليل في متحد الجنس لاختياره الأقل بلا شبهة ( فإن جنى ) أي كل واحد من المذكورين جناية ( أخرى ) فعند الإمام ( شارك ولي ) الجناية ( الثانية ولي ) الجناية ( الأولى في القيمة إن دفعت ) أي القيمة ( إليه ) أي إلى ولي الأولى ( بقضاء ) ولا يطلب ولي الثانية من المولى شيئا لأنه لا تعدي من المولى بدفعها إلى ولي الجناية الأولى لأنه مجبور على الدفع بالقضاء فيتبع ولي الجناية الثانية ولي الجناية الأولى فيشاركه فيها ويقتسمانه على قدر حقهما ( وإلا ) أي وإن لم يدفع المولى القيمة إلى ولي الجناية الأولى بقضاء بل برضى ( فإن شاء اتبع ) ولي الثانية ( ولي ) الجناية ( الأولى وإن شاء اتبع المولى ) لأن جناية المدبر وأم الولد إنما توجب قيمة واحدة فإذا دفعها إلى الأول باختياره صار متعديا في حق الثاني لأن حصته وجبت عليه وليس له ولاية عليه حتى ينفذ هذا الدفع في حقه وإذا لم ينفذ دفع المولى في حق الثاني فالثاني بالخيار إن شاء اتبع ولي الأول لأنه تبين أنه قبض حقه ظلما فصار به ضامنا فيأخذ حقه منه وإن شاء اتبع المولى لأنه تعدى بدفع حقه اختيارا منه لا جبرا بخلاف ما لو كان بقضاء القاضي على ما بين آنفا هذا عند الإمام ( وعندهما يتبع ) ولي الجناية الثانية ( ولي الأولى بكل حال ) أي سواء كان دفع المولى بقضاء القاضي أو برضاه ولا شيء على المولى لأن ما فعله باختياره بمنزلة ما فعله بالقضاء لأنه إيصال حق إلى مستحقه ولم تكن الجناية الثانية موجودة حينئذ حتى يجعل متعديا بالدفع .
لما ذكر حكم المدبر في الجناية ذكر في هذا الباب ما يرد عليه وما يرد منه وذكر حكم من يلحق به . ( ولو قطع سيد يد عبده فغصب ) أي العبد بأن غصبه آخر ( فمات من القطع في يد الغاصب ضمن ) الغاصب ( قيمته ) أي العبد ( مقطوعا ) لأن الغصب قاطع للسراية لأنه سبب الملك كالبيع فصير كأنه هلك بآفة سماوية فتجب قيمته إن قطع .
لما كان أمر القتيل في بعض الأحوال يئول إلى القسامة أوردها في آخر الديات في باب على حدة , وهي في اللغة اسم وضع موضع الإقسام . وفي الشرع أيمان يقسم بها أهل محلة أو دار وجد فيهما قتيل به جراحة أو أثر ضرب أو خنق ولا يعلم من قتله يقسم خمسون رجلا من أهل المحلة يقول كل واحد منهم بالله ما قتلته ولا علمت له قاتلا وسببها وجود القتيل كما ذكرنا وركنها إجراء اليمين على لسان كل واحد من الخمسين بالله ما قتلته ولا علمت له قاتلا كما سيجيء وشرطها بلوغ المقسم وعقله وحريته وأن يكون الميت الموجود على الكيفية المذكورة وتكميل اليمين خمسين , فإن لم يبلغ المقسمون هذا العدد يكرر عليهم اليمين حتى يبلغ الخمسين , وحكمها القضاء بوجوب الدية بعد الحلف , والحبس إلى الحلف إن أبوا إذا ادعى الولي العمد , والحكم بالدية عند النكول إن ادعى الولي القتل خطأ . ومن محاسنها خطر الدماء وصيانتها عن الإهدار وخلاص من يتهم بالقتل عن القصاص , وتعيين الخمسين ثبت بالأحاديث المشهورة الواردة في باب القسامة .
المعاقل هي جمع معقلة كالمفاخر جمع مفخرة من عقل يعقل عقلا وعقولا ولما كان موجب القتل الخطأ وما معناه الدية على العاقلة لم يكن بد من معرفتها وبيان أحكامها في هذا الكتاب فقال ( وهي ) أي المعاقل ( الدية ) وسميت الدية عقلا ومعقلة ; لأنها تعقل الدماء من أن تسفك أي تمسكها وتمنعها لما يلزم عليها من وجوب الدية ويسمى العقل عقلا لمنعه صاحبه عن القبائح ( والعاقلة من يؤديها ) أي الدية ( وهم ) أي المؤدون ( أهل الديوان ) وهم الجيش الذين كتبت أسماؤهم في الديوان . وفي القاموس والديوان يكسر ويفتح مجتمع الصحف والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية وأول من وضعه عمر رضي الله تعالى عنه جمعه دواوين ودياوين انتهى . والأصل في إيجاب الدية على العاقلة بالخطأ وشبه العمد "قوله عليه الصلاة والسلام لأولياء الضاربة قوموا فدوه" ( إن كان القاتل منهم ) والعاقلة عند الشافعي العشيرة ; لأنه كان عليهم في عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا نسخ بعده ; لأنه لا يكون إلا بوحي على لسان نبي ولا نبي بعده ولأنه صلة والأقارب أحق بالصلات كالإرث والنفقات , ولنا أن عمر رضي الله تعالى عنه فرض العقل على أهل الديوان بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكر عليه منكر منهم فكان ذلك إجماعا منهم , فإن قيل كيف يظن بهم الإجماع على خلاف ما قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ قلنا هذا إجماع على وفاق ما قضى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنهم علموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إنما قضى على العشيرة باعتبار النصرة وقد كان قوة المرء ونصرته يومئذ بعشيرته ثم لما دون عمر رضي الله تعالى عنه الدواوين صارت القوة والنصرة بالديوان فلهذا قضى بالدية على أهل الديوان ( تؤخذ من عطاياهم في ثلاث سنين ) من وقت القضاء بالدية والتقدير بثلاث سنين مروي عنه عليه الصلاة والسلام ومحكي عن عمر رضي الله تعالى عنه ولأن الأخذ من العطاء للتخفيف والعطاء يخرج في كل سنة مرة .
|